إنطباعات متفائلة جدا
لعائد الى بغداد
بعد غياب 6 سنوات
اعزائي كاتب هذه السطور ناقل الصوره الحقيقه لبغداد
How an Iraqi professional sees Baghdad after few years of living in UAE
"أعزائي جميعا...
لا أقول لكم (مكانكم خالي) لأني حتما أتمنى لكم الخير والسعادة.
إن مايجمعنا مع بغــداد هي عاطفة لا إرادية وصور ذهنية مترسخة وقديمة، وليست إرادة واعية على وفق حقائق ميدانية تحليلية حالية، وعندما نتألم على واقعها الحالي فلأننا نقارن حال تلك العروس بأيام شبابها وليس بعد أن أصبحت عجوزا هرمة متعبة من مصائب ما توالى عليها، فقد أصيبت بشلل بمعظم مرافقها أقدره بأكثر من نصفي، والحقيقة إننا نعيش أحلام وتمنيات ونطمع أن تعود تلك العجوز لتصبح لاعبة تنس كرياضية يانعة أو عارضة أزياء جميلة.
أنصحكم أن تنسوا أن هناك مدينة أسمها بغــداد، حاليا على الأقل، نعم لقد كانت هناك في سجل التاريخ، بغداد السلام وألف ليلة وليلة، أما هذه التي أنا على أرضها اليوم فلا بد أن تنعت بإسم جديد، بمجتمع وقيم وقوانين جديدة، فالكل يتسابق ليجر بها الى الخلف وينخر فيها لآخر طابوقة ممكن أن يطالها للبيع، إنها عبارة عن مدينة متخلفة بكل المقاييس الواقعية الصادقة الواعية غير المتحيزة أو الإعلامية، ولعل الأدهى في ذلك كله أنها تعيش تخلفا فكريا اجتماعيا وبدائية مفرطة وإحباط عام تقرأه الوجوه، لم أجد إبتسامة، الكل غارق في التدخين، الكل يدعو الله ويصلي ولا يدري أية آية يقرأ، الكل يشكو وبشكل ممل من كل شيء، والكل وصل لإستنتاج مأثور مفاده: ما تصير إلنا "جارة".
منذ لحظة إنتقالي من مطار بغداد الى منزلي وانا بشوق وشراهة أنظر لكل شيء من حولي، فقد اشتقت لباصات المصلحة وحتى للكلاب السائبة، لكني شعرت بالغربة والألم، الأزبال وأكياس النايلون المتطايرة، المساكن المزخرفة بثقوب الرصاص أو المهدوم جزء منها، الأسيجة الكونكريتية العازلة بين كل حي وآخر والتي حولت الشوارع إلى كوردورات كئيبة، شدّات الوايرات المبعثرة والقبيحة التي تغذي المساكن بكهرباء المولدات، السيارات القذرة والمطعجة القديمة (تبرز من بينها بعض سيارات حديثة بشكل نشاز)، رأيت من خلف العوازل الكونكريتية عشرات المساكن وقد توقف العمل فيها، كل شيء في المدينة مكسو بالتراب من أثر العجاج والإهمال، تلونت بعض جسور المشاة والانترجينجز بألوان ريفية أفقدتها هيبة المدينة، صور ممزقة لعشرات المرشحين شوهت الأعمدة والجدران، وما أن مررنا بمنطقة الأسواق حتى وجدتها مغلقة دون إستثناء علما أن الوقت لم يكن يتجاوز الخامسة عصرا، ولشدة تعجبي أخبرني سائق التكسي مخففا عني: الكرادة والمنصور/ الرواد يتأخرون شوية وخاصة اللي محلاتهم يم بيوتهم.
بعد تجوالي في المدينة في اليوم التالي بصحبة أحد الأصدقاء، وجدت أن بغداد قد أصبحت بمستوى المحمودية أو سلمان باك وبزمن لا أبالغ بالقول قبل 30 سنة، أما عرصات الهندية والكرادة برة وجوة فقد تحولت إلى سوق شورجة طويل ومستمر (العرصات شوية أحسن لأن 90% من المحلات معزلة)..
لايمكنك التجوال بالمدينة لوحدك قطعا في البداية، لأن الأحياء مسيجة ومغلقة ولا تنفتح إلا على بوابة واحدة (ربما أكثر) مسيطر عليها امنيا، وهذا يكلف السائق جولة طويلة للوصول لهدفه، والحقيقة سيطرة ممتازة لفائدة السكان وأمنهم.
إسالة الماء جيدة جدا حتى انك لا تحتاج ماطور ضخ (في منطقتنا)، الكهرباء متوسط ولكن مع وجود المولدات الأهلية يمكن القول أنه لا بأس به رغم درجات الحرارة، الغاز متوفر والبنزين كذلك، جمع الأزبال بين سطر وسطر.
الأسعار غالية جدا جدا نسبة لمورد العراقيين، تضاهي 65% عموما مقارنة بدبي، أما السكن فبمعدل 700 دولار لشقة تجارية غرفتين وصالة ونفس الرقم لسكن بدار متوسط.
من مجمل محادثاتي مع ذوي الاختصاص بالامكان تأسيس عملي هنا من جديد، في البداية لا بد أن أجد شريكا من الأخوة اللصوص، ومن ثم نعمل (على حب الله) سويةّ، وليس من ريب في ذلك في المفاهيم البغدادية المعاصرة، وأنا شخصيا لا أزال ساعيا في تحقيق ذلك، خمطة من هنا وخمطة من هناك وإنشاء الله (تمشي الأمور)، ومن الطبيعي سياسة (مشّي) هي كلمة السر في كل عمل هنا، وكما قيل لي كنصيحة: لا تبقى بهالعقل، ومن البطر أن تفكر في مصطلحات مثل: مستوى شغل، فنيات، كود، ريكوليشن، لأن في النهاية لن تجد أمامك الا ان تعمل سايق تكسي لو تنتظر سراك بالمسطر.
شيئ مهم لكي تبقى في بغداد وتنسجم مع الحياة (أو بالأحرى الموت البطيء) وهو إستعمال مبدأ: ذبها عالساطور، ومنو أبو باجر، و إنشاء الله تتحسن، و يابه لا تلح، والله ميكطع، و شيصير أنكس بعد، وأمرنا لله، وهسه مو زين طلعنا سلامات،،، المهم أن نكون قدريين دون تحليل وقرار.
عموما لكل منا مشروعه وأهدافه الشخصية المتأتية من ظروفه العامة، أما العراقيين في الخارج الذين يزورون بغداد لعدة ايام كسياحة أو حتى تجارة ويعكسون صورا عن المدينة والحياة بمصطلحات كلها تمنيات وصور مستلة من خزين الأحلام، هي في الواقع منبثقة من حب كبير لبغداد ورغبة عارمة في تطابق التمنيات مع الواقع، كالذي يصف لأصدقائه متباهيا بذكاء ولده وهو أغبى الاغبياء.
وصف لي احدهم الوضع في بغداد عندما كنت في الامارات فقال:
الوضع الامني كلش زين والعالم دتبقى برة للدعش بالليل والنوادي مفتوحة وسيارات أشكال أرناك بالشارع.
كل ذلك صحيح جدا لكنه لايختلف كثيرا عمن يكتفي بذكر مقطع (ويل للمصلين) متجنبا تكملة بقية المضمون، وسؤالي لهؤلاء: زين ليش ماترجعون للبلد وتظلون بالشوارع للدعش بالليل، ويا ترى خشّيتوا دائرة حكومية، تمرضتوا ورحتوا مستشفى، سقتوا سيارة، ركبتوا نفرات، إنتظرتوا ساعة زمنية أو أكثر إلى أن يشغل أبو المولدة وقت الظهيرة أو نص الليل؟ لو بس رحتوا نوادي وجم مطعم ستاندرد وكضيتوها عزايم وتنظير برؤوس أهل البلد.
أعزائي ... الوضع الأمني كلش زين فعلا، بس مثلا عبر 6 مفارز بين بيتي ومكتبي (17 كيلو متر)، مع إزدحام أقله 5 دقائق عند كل مفرزة وليس في وقت ذروة الدوام، مع الأخذ بنظر الإعتبار الكوابيس التي تنتابك عند كل نقطة تفتيش وخاصة إذا قال لك: نزل الجامة ... شايل سلاح؟ بس الجهاز ديأشر عندي ... أفتح الجقمجة أخويه .... ها!!! أخاف الأخت شايلة قلم حمرة؟ ... تفضل خالي الله وياك... طبعا مع أني (سييلد) وما عندي شي بس بكت هوا. الحق يقال ان الجميع ممن شاهدتهم من مفارز كانوا مؤدبين ومهنيين جدا.
أما بخصوص العالم دتبقى برة للدعش بالليل والنوادي مفتوحة فتلك حقيقة أيضا، ولكن في هذا الوقت المتأخر نسبيا تكون المدينة موحشة جدا جدا وتذكرني بأفلام شرلوك هولمز والليل الموحش الممطر، أما في بغداد فتجد نفسك أنت والشرطة والعجاج، في ظلام دامس يصعب فيه قيادة السيارة بين (لعبة) العوارض الكونكريتية والطسات الإصطناعية (البلاستيكية المستوردة)، وقبل أسبوع قتل شاب يقود سيارة ليلا في مدينة المأمون (سهلة إنشاء الله) وأختطفت إمرأة في الدورة وقتلت ببشاعة بعد تجريدها من سيغتها الذهبية. عادة الناس تتأخر في المرافق المتاخمة والقريبة لمساكنها ويفضل عدم التنقل بين المناطق كلما أمكن ذلك.
بالأمس تعشيت في مطعم كبير وجديد في الجادرية وفيه نركيلة ورأيت فيه نساء وقورات بعضهن غير محجبات وأعجبني الجو العام (سبورت جدا فيه عوائل)، لكن المطعم يصنف بدرجة تكة كباب تشريب رغم أن الآخرين يعتبرونه راقي جدا جدا( فدوى يروح للساب وي) لأن اللي بالداخل كلشي بالنسبة له درجة أولى.
أما الطرق والسياقة فحدث ولا حرج، نعم هناك سيارات حديثة ولكن ليس بكثرة ربما بسبب كثرة الزبالة القديمة من السيارات المزنجرة. في كل الأحوال لا قانون ولا شرطة ولا تأمين.. الغالبية تسوق وجكارتها بيدها طالعة من الشباك، يتحدث ويتحدث السائق ولا يأبه لجوق موسيقي من الهورنات، والكل طالعة روحها من الحر، الخطوط الفاصلة في الشارع عبارة عن ديكور وليس للإفادة بالسياقة، أما شرطي المرور فهو تائه بين الفور ويل درايف و زمال عربانة الغاز والمكادي وأهل الجرايد، مناظر مضحكة جدا. في كل تلك الفوضى يجب استعمال الحزام وتوجد غرامات مرورية بس أكبر مخالفة تفض بعشرة آلاف دينار (معدل أجور التكسي 3000 الى 8000 دينار).
خلال زيارتي إحدى الشركات الكبيرة للمقاولات، وبعد حوار طويل وجلسة غذاء عمل، أخبرني مدير الشركة (العراقي - الأمريكي الجنسية) باستنتاجه بعد تسعة شهور من الركض واللهط مع دوائر الدولة حيث لخصها بعبارة: أَيّسنا واعتمادنا الوحيد بس عالقطاع الخاص، وأضاف: لو أكو شغل بأميركا لحظة ما أبقى هنا.
أما القطاع الخاص فقد سادت على الساحة طبقة ممن هم لا علاقة لهم بالمهنة والاختصاص، الكل يعمل كل شيء، يجب أن يدخن (برستيج)، كرشه مدلوع، لبسه مرعبل، بس يحجي بالدفاتر (الدفتر 10000 دولار)، تخيلوا أن التصميم لمنزل أصبحت أجوره 4 دفاتر عدا الإشراف وتصميم الحمامات ينحسب على حدة. بالمناسبة سعر المتر مربع بناء يكلف بمعدل 7 الى عشرة ورقات في القطاع الخاص. طبعا مستوى البناء تخلف عن قبل كثيرا، تخيلوا أن عرض الأسس المستمرة في بناية تجارية بثلاث طوابق في شارع الصناعه هو 60 سم فقط !!!
المشكلة الحقيقية هي:
ماذا تريد؟ إن أردت الحياة والرفاهية والخدمات والقانون فلن تجدها في بغداد، فهو سجن إسمه وطن..
وان أردت المال والاسترخاء وسط عالم من التخلف والفوضى، مجرد تمشية زمن حتى الموت، فالعراق هو بيئته.
ولم يصدر قراري لحد الان...."
لعائد الى بغداد
بعد غياب 6 سنوات
اعزائي كاتب هذه السطور ناقل الصوره الحقيقه لبغداد
How an Iraqi professional sees Baghdad after few years of living in UAE
"أعزائي جميعا...
لا أقول لكم (مكانكم خالي) لأني حتما أتمنى لكم الخير والسعادة.
إن مايجمعنا مع بغــداد هي عاطفة لا إرادية وصور ذهنية مترسخة وقديمة، وليست إرادة واعية على وفق حقائق ميدانية تحليلية حالية، وعندما نتألم على واقعها الحالي فلأننا نقارن حال تلك العروس بأيام شبابها وليس بعد أن أصبحت عجوزا هرمة متعبة من مصائب ما توالى عليها، فقد أصيبت بشلل بمعظم مرافقها أقدره بأكثر من نصفي، والحقيقة إننا نعيش أحلام وتمنيات ونطمع أن تعود تلك العجوز لتصبح لاعبة تنس كرياضية يانعة أو عارضة أزياء جميلة.
أنصحكم أن تنسوا أن هناك مدينة أسمها بغــداد، حاليا على الأقل، نعم لقد كانت هناك في سجل التاريخ، بغداد السلام وألف ليلة وليلة، أما هذه التي أنا على أرضها اليوم فلا بد أن تنعت بإسم جديد، بمجتمع وقيم وقوانين جديدة، فالكل يتسابق ليجر بها الى الخلف وينخر فيها لآخر طابوقة ممكن أن يطالها للبيع، إنها عبارة عن مدينة متخلفة بكل المقاييس الواقعية الصادقة الواعية غير المتحيزة أو الإعلامية، ولعل الأدهى في ذلك كله أنها تعيش تخلفا فكريا اجتماعيا وبدائية مفرطة وإحباط عام تقرأه الوجوه، لم أجد إبتسامة، الكل غارق في التدخين، الكل يدعو الله ويصلي ولا يدري أية آية يقرأ، الكل يشكو وبشكل ممل من كل شيء، والكل وصل لإستنتاج مأثور مفاده: ما تصير إلنا "جارة".
منذ لحظة إنتقالي من مطار بغداد الى منزلي وانا بشوق وشراهة أنظر لكل شيء من حولي، فقد اشتقت لباصات المصلحة وحتى للكلاب السائبة، لكني شعرت بالغربة والألم، الأزبال وأكياس النايلون المتطايرة، المساكن المزخرفة بثقوب الرصاص أو المهدوم جزء منها، الأسيجة الكونكريتية العازلة بين كل حي وآخر والتي حولت الشوارع إلى كوردورات كئيبة، شدّات الوايرات المبعثرة والقبيحة التي تغذي المساكن بكهرباء المولدات، السيارات القذرة والمطعجة القديمة (تبرز من بينها بعض سيارات حديثة بشكل نشاز)، رأيت من خلف العوازل الكونكريتية عشرات المساكن وقد توقف العمل فيها، كل شيء في المدينة مكسو بالتراب من أثر العجاج والإهمال، تلونت بعض جسور المشاة والانترجينجز بألوان ريفية أفقدتها هيبة المدينة، صور ممزقة لعشرات المرشحين شوهت الأعمدة والجدران، وما أن مررنا بمنطقة الأسواق حتى وجدتها مغلقة دون إستثناء علما أن الوقت لم يكن يتجاوز الخامسة عصرا، ولشدة تعجبي أخبرني سائق التكسي مخففا عني: الكرادة والمنصور/ الرواد يتأخرون شوية وخاصة اللي محلاتهم يم بيوتهم.
بعد تجوالي في المدينة في اليوم التالي بصحبة أحد الأصدقاء، وجدت أن بغداد قد أصبحت بمستوى المحمودية أو سلمان باك وبزمن لا أبالغ بالقول قبل 30 سنة، أما عرصات الهندية والكرادة برة وجوة فقد تحولت إلى سوق شورجة طويل ومستمر (العرصات شوية أحسن لأن 90% من المحلات معزلة)..
لايمكنك التجوال بالمدينة لوحدك قطعا في البداية، لأن الأحياء مسيجة ومغلقة ولا تنفتح إلا على بوابة واحدة (ربما أكثر) مسيطر عليها امنيا، وهذا يكلف السائق جولة طويلة للوصول لهدفه، والحقيقة سيطرة ممتازة لفائدة السكان وأمنهم.
إسالة الماء جيدة جدا حتى انك لا تحتاج ماطور ضخ (في منطقتنا)، الكهرباء متوسط ولكن مع وجود المولدات الأهلية يمكن القول أنه لا بأس به رغم درجات الحرارة، الغاز متوفر والبنزين كذلك، جمع الأزبال بين سطر وسطر.
الأسعار غالية جدا جدا نسبة لمورد العراقيين، تضاهي 65% عموما مقارنة بدبي، أما السكن فبمعدل 700 دولار لشقة تجارية غرفتين وصالة ونفس الرقم لسكن بدار متوسط.
من مجمل محادثاتي مع ذوي الاختصاص بالامكان تأسيس عملي هنا من جديد، في البداية لا بد أن أجد شريكا من الأخوة اللصوص، ومن ثم نعمل (على حب الله) سويةّ، وليس من ريب في ذلك في المفاهيم البغدادية المعاصرة، وأنا شخصيا لا أزال ساعيا في تحقيق ذلك، خمطة من هنا وخمطة من هناك وإنشاء الله (تمشي الأمور)، ومن الطبيعي سياسة (مشّي) هي كلمة السر في كل عمل هنا، وكما قيل لي كنصيحة: لا تبقى بهالعقل، ومن البطر أن تفكر في مصطلحات مثل: مستوى شغل، فنيات، كود، ريكوليشن، لأن في النهاية لن تجد أمامك الا ان تعمل سايق تكسي لو تنتظر سراك بالمسطر.
شيئ مهم لكي تبقى في بغداد وتنسجم مع الحياة (أو بالأحرى الموت البطيء) وهو إستعمال مبدأ: ذبها عالساطور، ومنو أبو باجر، و إنشاء الله تتحسن، و يابه لا تلح، والله ميكطع، و شيصير أنكس بعد، وأمرنا لله، وهسه مو زين طلعنا سلامات،،، المهم أن نكون قدريين دون تحليل وقرار.
عموما لكل منا مشروعه وأهدافه الشخصية المتأتية من ظروفه العامة، أما العراقيين في الخارج الذين يزورون بغداد لعدة ايام كسياحة أو حتى تجارة ويعكسون صورا عن المدينة والحياة بمصطلحات كلها تمنيات وصور مستلة من خزين الأحلام، هي في الواقع منبثقة من حب كبير لبغداد ورغبة عارمة في تطابق التمنيات مع الواقع، كالذي يصف لأصدقائه متباهيا بذكاء ولده وهو أغبى الاغبياء.
وصف لي احدهم الوضع في بغداد عندما كنت في الامارات فقال:
الوضع الامني كلش زين والعالم دتبقى برة للدعش بالليل والنوادي مفتوحة وسيارات أشكال أرناك بالشارع.
كل ذلك صحيح جدا لكنه لايختلف كثيرا عمن يكتفي بذكر مقطع (ويل للمصلين) متجنبا تكملة بقية المضمون، وسؤالي لهؤلاء: زين ليش ماترجعون للبلد وتظلون بالشوارع للدعش بالليل، ويا ترى خشّيتوا دائرة حكومية، تمرضتوا ورحتوا مستشفى، سقتوا سيارة، ركبتوا نفرات، إنتظرتوا ساعة زمنية أو أكثر إلى أن يشغل أبو المولدة وقت الظهيرة أو نص الليل؟ لو بس رحتوا نوادي وجم مطعم ستاندرد وكضيتوها عزايم وتنظير برؤوس أهل البلد.
أعزائي ... الوضع الأمني كلش زين فعلا، بس مثلا عبر 6 مفارز بين بيتي ومكتبي (17 كيلو متر)، مع إزدحام أقله 5 دقائق عند كل مفرزة وليس في وقت ذروة الدوام، مع الأخذ بنظر الإعتبار الكوابيس التي تنتابك عند كل نقطة تفتيش وخاصة إذا قال لك: نزل الجامة ... شايل سلاح؟ بس الجهاز ديأشر عندي ... أفتح الجقمجة أخويه .... ها!!! أخاف الأخت شايلة قلم حمرة؟ ... تفضل خالي الله وياك... طبعا مع أني (سييلد) وما عندي شي بس بكت هوا. الحق يقال ان الجميع ممن شاهدتهم من مفارز كانوا مؤدبين ومهنيين جدا.
أما بخصوص العالم دتبقى برة للدعش بالليل والنوادي مفتوحة فتلك حقيقة أيضا، ولكن في هذا الوقت المتأخر نسبيا تكون المدينة موحشة جدا جدا وتذكرني بأفلام شرلوك هولمز والليل الموحش الممطر، أما في بغداد فتجد نفسك أنت والشرطة والعجاج، في ظلام دامس يصعب فيه قيادة السيارة بين (لعبة) العوارض الكونكريتية والطسات الإصطناعية (البلاستيكية المستوردة)، وقبل أسبوع قتل شاب يقود سيارة ليلا في مدينة المأمون (سهلة إنشاء الله) وأختطفت إمرأة في الدورة وقتلت ببشاعة بعد تجريدها من سيغتها الذهبية. عادة الناس تتأخر في المرافق المتاخمة والقريبة لمساكنها ويفضل عدم التنقل بين المناطق كلما أمكن ذلك.
بالأمس تعشيت في مطعم كبير وجديد في الجادرية وفيه نركيلة ورأيت فيه نساء وقورات بعضهن غير محجبات وأعجبني الجو العام (سبورت جدا فيه عوائل)، لكن المطعم يصنف بدرجة تكة كباب تشريب رغم أن الآخرين يعتبرونه راقي جدا جدا( فدوى يروح للساب وي) لأن اللي بالداخل كلشي بالنسبة له درجة أولى.
أما الطرق والسياقة فحدث ولا حرج، نعم هناك سيارات حديثة ولكن ليس بكثرة ربما بسبب كثرة الزبالة القديمة من السيارات المزنجرة. في كل الأحوال لا قانون ولا شرطة ولا تأمين.. الغالبية تسوق وجكارتها بيدها طالعة من الشباك، يتحدث ويتحدث السائق ولا يأبه لجوق موسيقي من الهورنات، والكل طالعة روحها من الحر، الخطوط الفاصلة في الشارع عبارة عن ديكور وليس للإفادة بالسياقة، أما شرطي المرور فهو تائه بين الفور ويل درايف و زمال عربانة الغاز والمكادي وأهل الجرايد، مناظر مضحكة جدا. في كل تلك الفوضى يجب استعمال الحزام وتوجد غرامات مرورية بس أكبر مخالفة تفض بعشرة آلاف دينار (معدل أجور التكسي 3000 الى 8000 دينار).
خلال زيارتي إحدى الشركات الكبيرة للمقاولات، وبعد حوار طويل وجلسة غذاء عمل، أخبرني مدير الشركة (العراقي - الأمريكي الجنسية) باستنتاجه بعد تسعة شهور من الركض واللهط مع دوائر الدولة حيث لخصها بعبارة: أَيّسنا واعتمادنا الوحيد بس عالقطاع الخاص، وأضاف: لو أكو شغل بأميركا لحظة ما أبقى هنا.
أما القطاع الخاص فقد سادت على الساحة طبقة ممن هم لا علاقة لهم بالمهنة والاختصاص، الكل يعمل كل شيء، يجب أن يدخن (برستيج)، كرشه مدلوع، لبسه مرعبل، بس يحجي بالدفاتر (الدفتر 10000 دولار)، تخيلوا أن التصميم لمنزل أصبحت أجوره 4 دفاتر عدا الإشراف وتصميم الحمامات ينحسب على حدة. بالمناسبة سعر المتر مربع بناء يكلف بمعدل 7 الى عشرة ورقات في القطاع الخاص. طبعا مستوى البناء تخلف عن قبل كثيرا، تخيلوا أن عرض الأسس المستمرة في بناية تجارية بثلاث طوابق في شارع الصناعه هو 60 سم فقط !!!
المشكلة الحقيقية هي:
ماذا تريد؟ إن أردت الحياة والرفاهية والخدمات والقانون فلن تجدها في بغداد، فهو سجن إسمه وطن..
وان أردت المال والاسترخاء وسط عالم من التخلف والفوضى، مجرد تمشية زمن حتى الموت، فالعراق هو بيئته.
ولم يصدر قراري لحد الان...."